فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
بيان لحسنِ حالِ المُؤمنين إثر بيان سوءِ حال الكَفرةِ وقد غُيِّر الأسلوبُ فيه بإسناد الإدخالِ إلى الله عز وجل. وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّحقيقِ إيذانًا بكمال مباينةِ حالهم لحالِ الكفرةِ وإظهارًا لمزيدِ العنايةِ بأمرِ المؤمنين ودلالة على تحقيقِ مضمونِ الكلام {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} على البناء للمفعولِ بالتَّشديدِ من التَّحليةِ وقرئ بالتَّخفيفِ من الإحلاءِ بمعنى الإلباسِ أي يُحلِّيهم الملائكةُ بأمرِه تعالى. وقرئ يُحلَّون من حليةِ المرأةِ إذا لبستْ حِليتَها ومن في قوله تعالى: {مِنْ أَسَاوِرَ} إما للتبعيضِ أي بعضِ أساورَ وهي جمع أَسْوِرةٍ جمع سِوارٍ أو للبيانِ لِما أنَّ ذكرَ التَّحليةِ ممَا يُنبىء عن الحلى المبهمِ، وقيل: زائدةٌ، وقيل: نعتٌ لمفعولٍ محذوفٍ ليحلون فإنَّه بمعنى يلبسون {مّن ذَهَبٍ} بيانٌ للأساورِ {وَلُؤْلُؤًا} عطفٌ على محلِّ من أساورَ أو على المفعولِ المحذوفِ أو منصوبٌ بفعل مضمرٍ يدلُّ عليه يحلون أي يُؤتون. وقرئ بالجرِّ عطفًا على أساورَ وقرئ لؤلؤًا بقلب الهمزة الثَّانيةِ واوًا ولوليًّا بقلبها ياءً بعد قلبهما واوًا وليليا بقلبهما ياءً {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} غُيِّر الأسلوبُ حيثُ لم يقُلْ ويلبسون فيها حريرًا لَكِن لا للدِّلالةِ على أنَّ الحريرَ ثيابُهم المعتادة أو لمجرَّدِ المحافظةِ على هيئةِ الفواصلِ بل للإيذانِ بأن ثبوت اللباسِ لهم أمر محقَّقٌ غنيٌّ عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنْهُ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ أنَّ لباسَهم ماذا بخلافِ الأساورِ واللؤلؤ فإنَّها ليستْ من اللَّوازمِ الضَّروريَّةِ فجعل بيان تحليتهم بها مقصودًا بالذَّاتِ ولعلَّ هذا هو الباعثُ إلى تقديمِ بيانِ التَّحليةِ على بيانِ حالِ اللِّباس.
{وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول} وهو قولهم: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة} الآية: {وَهُدُواْ إلى صراط الحميد} أي المحمودِ نفسُه أو عاقبتُه وهو الجنَّةُ، ووجه التَّأخيرِ حينئذٍ أنَّ ذكرَ الحمد يستدعِي ذكرَ المحمودِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
بيان لحسن حال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة، وغير الأسلوب فيه بإسناد الإدخال إلى الاسم الجامع وتصدير الجملة بحرف التحقيق وفصلها للاستئناف إيذانًا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة وإظهارًا لمزيد العناية بأمر المؤمنين ودلالة على تحقيق مضمون الكلام {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} بالبناء للمفعول والتشديد من التحلية بالحلى أي تحليهم الملائكة عليهم السلام بأمره تعالى، وقوله تعالى: {مِنْ أَسَاوِرَ} قيل متعلق بـ يحلون، و{مِنْ} ابتدائية والفعل متعد لواحد وهو النائب عن الفاعل، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول محذوف ومن للبيان والفعل متعد لاثنين أحدهما النائب عن الفاعل والآخر الموصوف المحذوف أي يحلون حليًّا أو شيئًا من أساور، وعلى القول بتعدي هذا الفعل لاثنين جوز أن تكون من للتبعيض واقعة موقع المفعول، وأن تكون زائدة على مذهب الأخفش من جواز زيادتها في الإيجاب و{أَسَاوِرَ} مفعول {يُحَلَّوْنَ} وقوله تعالى: {مّن ذَهَبٍ} صفة لأساور، و{مِنْ} للبيان، وقيل: لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب، وقيل: للتبعيض وتعلقه بيحلون لا يخفى حاله، وقرئ {يُحَلَّوْنَ} بضم الياء والتخفيف، وهو على ما في البحر بمعنى المشدد، ويشعر كلام بعض أنه متعد لواحد وهو النائب الفاعل فمن أساور متعلق بـ ه ومن ابتدائية.
وقرأ ابن عباس {يُحَلَّوْنَ} بفتح الياء واللام وسكون الحاء من حليت المرأة إذا لبست حليها، وقال أبو حيان: إذا صارت ذات حلى، وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حلى بعيني يحلى إذا استحسنته وهو في الأصل من الحلاوة وتكون من حينئذٍ زائدة، والمعنى يستحسنون فيها الأساورة، وقيل: هذا الفعل لازم ومن سببية، والمعنى يحلى بعضهم بعين بعض بسبب لباس أساور الذهب.
وجوز أبو الفضل أن يكون من حليت به إذا ظفرت به، ومنه قولهم: لم يحل فلان بطائل، ومن حينئذٍ بمعنى الباء أي يظفرون فيها بأساور من ذهب.
وقرأ ابن عباس {مِنْ} بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرف لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لَكِنه قدر المحذوف موجودًا فمنع الصرف، وقد تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف فتذكر، وقوله تعالى: {ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} عطف على محل {مِنْ أَسَاوِرَ} أو على الموصوف المحذوف، وحمله أبو الفتح على إضمار فعل أي ويؤتون لؤلؤًا أو نحو ذلك، وقرأ أكثر السبعة، والحسن في رواية. وطلحة، وابن وثاب، والأعمش، وأهل مكة {ولؤلؤ} بالخفض عطفًا على {مِنْ أَسَاوِرَ} أو على {ذَهَبَ} لأن السوار قد يكون من ذهب مرصع بلؤلؤ وقد يكون من لؤلؤ فقط كما رأيناه ويسمى في ديارنا خصرًا وأكثر ما يكون من المرجان.
واختلفوا هل في الإمام ألف بعد الواو فقال الجحدري: نعم، وقال الأصمعي: لا، وروى يحيى عن أبي بكر همز الآخر وقلب الهمزة الأولى واوًا، وروى المعلي بن منصور عنه ضد ذلك.
وقرأ الفياض {لوليًّا} قلب الهمزتين واوين فصارت الثانية واوًا قبلها ضمة وحيث لم يكن في كلامهم اسم متمكن آخره واوه قبلها ضمة قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس {وليليًّا} بقلب الهززتين واوين ثم قلبهما ياءين، أما قلب الثانية فلما علمت وأما قلب الأولى فللاتباع.
وقرأ طلحة {ولول} كادل في جمع دلو قلبت الهمزتان واوين ثم قلبت ضمة اللام كسرة والواو ياء ثم أعل إعلال قاض {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرًا للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا بخلاف التحلية فإنها ليست من لوازمهم الضرورية فلذا جعل بيانها مقصودًا بالذات.
ولعل هذا هو السر في تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس قاله العلامة شيخ الإسلام، ولم يرتض ما قيل: إن التغيير للدلالة على أن الحرير لباسهم المعتاد أو لمجرد المحافظة على هيئة الفواصل، وظاهر كلامهم أن الجملة معطوفة على السابقة، وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير {يُحَلَّوْنَ} ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة، وقيل هو باعتبار الأغلب لما أخرج النسائي وابن حبان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» وحديث عدم لبس ذلك له في الآخرة مذكور في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا.
والظاهر أن حرمة استعمال الحرير للرجال في غير ما استثنى مجمع عليها وانه يكفر من استحل ذلك غير متأول، ولعل خبر البيهقي في سننه وغيره عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولم يدخل الجنة» إن صح محمول على ما إذا كان اللبس محرمًا بالإجماع وقد استحله فاعله من غير تأول أو على أن المراد لم يدخل الجنة مع السابقين وإلا فعدم دخول اللابس مطلقًا الجنة مشكل.
{وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول} وهو قولهم: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة} [الزمر: 74] كما روي عن ابن عباس، وقيل: ما يعمه وسائر ما يقع في محاورة أهل الجنة بعضًا لبعض، وقيل: إن هذه الهداية في الدنيا فالطيب قول لا إله إلا الله، وفي رواية عن ابن عباس ذلك مع زيادة والحمد لله، وزاد ابن زيد والله أكبر، وعن السدى هو القران، وحكى الماوردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: ما يعم ذلك وسائر الأذكار {وَهُدُواْ إلى صراط الحميد} أي المحمود جدًّا، وإضافة {صراط} إليه قيل بيانية.
والمراد به الإسلام فإنه صراط محمود من يسلكه أو محمود هو نفسه أو عاقبته، وقيل: الجنة وإطلاق الصراط عليها باعتبار أنها طريق للفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل: {الحميد} هو الجنة والإضافة على ظاهرها، والمراد بصراطها الإسلام أو الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة، واستظهر أن المراد من الحميد هو الله عز وجل المستحق لذاه لغاية الحمد.
والمراد بصراطه تعالى الإسلام فإنه طريق إلى رضوانه تعالى.
وقيل: الجنة فإنها طريق للفوز بما تقدم وأضيفت إليه تعالى للتشريف.
وحاصل ما قالوه هنا أن الهداية تحتمل أن تكون في الآخرة وأن تكون في الدنيا.
وأن المراد بالحميد إما الحق تعالى شأنه وإما الجنة وإما الصراط نفسه، وبالصراط إما الإسلام وإما الجنة وإما الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة.
ووجهوا تأخير هذه الجملة عن الجملة الأولى تارة بانه لرعاية الفواصل.
وأخرى بأن ذكر الحمد الذي تضمنته الأولى يستدعي ذكر المحمود ولا يبعد أن يقال: إن الهداية في الجملتين في الآخرة بعد دخول الجنة وإن الإضافة هنا بيانية وإن المراد بالقول الطيب القول الذي تستلذه النفوس الواقع في محاورة أهل الجنة بعضهم لبعض.
وبالصراط الحميد ما يسلكه أهل الجنة في معاملة بعضهم بعضًا من الأفعال التي يحمدون عليها أو مما هو أعم من ذلك.
فحاصل الجملة الأولى وصف أهل الجنة بحسن الأقوال.
وحاصل الثانية وصفهم بحسن الأفعال أو مما هو أعم منها ومن الأقوال.
وكأنه تعالى بعد أن ذكر حسن مسكنهم وحليهم ولباسهم ذيل ذلك بحسن معاملة بعضهم بعضًا في الأقوال والأفعال إيماءًا إلى أن ما هم فيه لا يخرجهم إلى خشونة المقال ورداءة الأفعال المشينتين لحسن ما هم فيه والمنغصتين للذة الاجتماع ووجه التقديم والتأخير على هذا غير خفي على الفطن.
والذي اختاره أن القول الطيب قولهم بعد دخول الجنة {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34، 35] لقوله تعالى: في سورة فاطر بعد قوله سبحانه: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقالواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 33، 34] الخ والقران يفسر بعضه بعضًا.
وأن المراد بالصراط الحميد ما يعم الأقوال والأفعال الجارية بين أهل الجنة مام يحمد سلوكه في المعاشرة والاجتماع في هاتيك البقاع فرارًا من شائبة التأكيد كما لا يخفى على ذي فكر سديد فتأمل هديت إلى صراط الحميد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفًا بالواو على جملة {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19] لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] بأن يقال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات يُدخلهم الله جنات...
إلى آخره.
فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلًا مفتتحًا بحرف التأكيد ومتوّجًا باسم الجلالة، والبليغ لا تفوته معرفة أنّ هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة.
فقوله: {يدخل الذين آمنوا} الخ مقابل قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} [الحج: 22].
وقوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب} يقابل قوله: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} [الحج: 19].
وقوله: {ولباسهم فيها حرير} مقابل قوله: {قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19].
وقوله: {وهدوا إلى الطيب من القول} مقابل قوله: {وذوقوا عذاب الحريق} [الحج: 22] فإنه من القول النكِد.
والتحليّة وضع الحَلْي على أعضاء الجسم. حَلاّه: ألبسه الحَلي مثل جلبب. والأساور: جمع أسورة الذي هو جمع سِوار.أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابًا خضرًّا} في [سورة الكهف: 31].
و مِن في قوله: {من أساور} زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يُحلّون أساور معرّضًا للتردد في أرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي، ولذلك فـ: {أساور} في موضع المفعول الثاني لـ: {يُحلَّون}.
{ولؤلؤًا} قرأه ناقع، ويعقوب، وعاصم بالنصب عطفًا على محل {أساور} أي يحلون لؤلؤًا أي عقودًا ونحوها.
وقرأه الباقون بالجرّ عطفًا على اللفظ والمعنى: أساور من ذهب وأساور من لُؤلؤ.
وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر {لؤلؤ} مخالفة لمكتوب المصحف.
والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجبًا على من يروي بما يخالفه. وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف، والذين قرأوه بالنصب خالفوا أيضًا خط المصحف واعتمدوا روايتهم. وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأنّ التأكيد تعلّق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف.
واللؤلؤ: الدرّ، ويقال له الجمان والجوهر وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقرأق تُستخرج من أجواف حيوان مائي حَلزوني مستقرّ في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غِلافه صَدفًا، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه.
وهذا الحيوان يوجد في عدّة بحار: كبحر العجم وهو المسمّى بالبحرين، وبحر الجابون، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات، ويستخرجه غَوّاصون مدَرّبون على التقاطه من قعر البحر بالغوص، يغوص الغائص مُشدودًا بحبل بيد مَن يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط.
وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علَس أو الأعشى:
لَجمانة البحريّ جاء بها ** غَوّاصها من لُجّة البحر

نَصفَ النّهارَ الماء غامره ** ورفيقه بالغيب لا يدري

وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة:
فجَاءَ بِها ما شئت من لَطَمِيّة ** على وجهها ماء الفرات يموج

وقد أشارت إليه آية [سورة النحل: 14] {وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًّا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد {يُحَلّون} بصيغة الاسم دون يلبسون لتحصيل الدلالة على الثّبات والاستمرار كما دلّت صيغة {يُحَلّون} على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل: يحلّون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه.
والحرير: يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا.
وأصل اسم الحرير اسم لخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفّها لَفًّا بعضها إلى بعض مثل كُبّة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدّة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه.
وإنما تحصّلُ الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيُطلقونها خيطًا واحدًا طويلًا.
ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان.
وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديمًا وحديثا، وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريبًا حيث يكثر شجر التوت، لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان عَلَفُه ورقَ التُّوت، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التُّوت.
وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصّلون الحرير إلاّ من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية.
وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب، ثم نقل بَزر دود الحرير الذي يتولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الأمبراطور بوستنيانوس بين سنة 527 وسنة 565م.
ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف.
وعُرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي.
ومعنى {وهدوا إلى الطيب من القول} أن الله يرشدهم إلى أقوال، أي يُلهمهم أقوالًا حسنة يقولونها بينهم، وقد ذُكر بعضها في قوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] وفي قوله: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين} [الزمر: 74]. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يرشدون إلى أماكن يسمعون فيها أقوالًا طيبة. وهو معنى قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24].
وهذا أشد مناسبة بمقابلة مما يسمعه أهل النار في قوله: {وذوقوا عذاب الحريق} [الحج: 22].
وجملة {وهدوا إلى صراط الحميد} معترضة في آخر الكلام، والواو للاعتراض، هي كالتكملة لوصف حسن حالهم لمناسبة ذكر الهداية في قوله: {وهدوا إلى الطيب من القول}، ولم يسبق مقابل لمضمون هذه الجملة بالنسبة لأحوال الكافرين وسيجيء ذكر مقابلها في قوله: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} إلى قوله: {نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25] وذلك من أفانين المقابلة.
والمعنى: وقد هُدُوا إلى صراط الحميد في الدنيا، وهو دين الإسلام، شبه بالصراط لأنه موصل إلى رضى الله.
والحميد من أسماء الله تعالى، أي المحمود كثيرًا فهو فعيل بمعنى مفعول، فإضافة {صراط} إلى اسم الله لتعريف أيّ صراط هو.
ويجوز أن يكون {الحميد} صفة لـ: {صراط} أي المحمود لسالكه.
فإضافة صراط إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، والصراط المحمود هو صراط دين الله.
وفي هذه الجملة إيماء إلى سبب استحقاق تلك النعم أنه الهداية السابقة إلى دين الله في الحياة الدنيا. اهـ.